بيت الموروث الشعبي.. فضاء يعبق برائحة اليمن

بيت الموروث الشعبي.. فضاء يعبق برائحة اليمن
بيت التراث الشعبي

بيت الموروث الشعبي.. فضاء يعبق برائحة اليمن

ياسين التميمي

يشغل مبنى متواضعاً في أحد الأحياء التي كانت تقع في أقصى الطرف الشرقي لمدينة صنعاء القديمة، هيئته المتواضعة، تضاعف من دهشة المرء عندما يزوره، ليكتشف أن في هذا المبنى، يستقر جزء مهم من الذاكرة الجميلة لهذا الشعب..
أزياء تقليدية يمنية
على يسار القادم من باب البلقة حيث يقع الآن قسم شرطة اللَّقية، باتجاه ميدان العلفي، وفي مبنى صغير يتكون من طابقين بالإضافة إلى مدخل أرضي ضيق، ويتميز بين المنازل المجاورة باللون الأحمر القرمزي في الجزء الأعلى منه، ويلاصق منازل طينية هي جزء مما تبقى من الحي الذي كان يسكنه اليهود غرب مدينة صنعاء.
في هذا المبنى قررت المثقفة والناشطة اليمنية، صاحبة أهم إسهام في العناية بالموروث الشعبي اليمني أروى عبده عثمان، أن تقيم بيت الموروث الشعبي، وهو كما تعرِّفه: كيان ثقافي بحثي متحفي غير حكومي وغير ربحي يُعنى بِجمع وتدوين وتوثيق الموروث الشعبي الروحي وإجراء التحليل والدراسات بالطرق المنهجية العلمية.
أروى عبده عثمان، لكأنها حملت الراية التي سلمها قبل أن يرحل إلى العالم الآخر مثقفٌ يمنيٌ بارزٌ هو الأديب والروائي والمؤرخ علي محمد عبده رحمه الله، صاحب حكايات وأساطير يمنية، الذي كان قد استطاع أن يحفظ بمؤَلَّفِه جزءاً مهماً من الذاكرة الشعبية القصصية عبر عشرات القصص الممزوجة بروح الأسطورة.
إنها بقدر ما تتمتع بحس ثوري وبنزعة قوية نحو التغيير، إلا أنها في المقابل تستبطن رغبة جامحة في إحياء الذاكرة بجميل ما خلفته الأجيال اليمنية من ممارسات تقليدية مادية ومعنوية، متسلحة بإيمان عميق بالتنوع، باعتباره قيمة إنسانية مطلقة.
قبل أن يصبح هذا البيت حقيقة واقعة اقتضى الأمر من صاحبته ومؤسسته أروى عبده عثمان أن تخوض تجربة ميدانية هي الأهم على مستوى اليمن أتاحت لها الفرصة لكي تجمع ما لم تستطع أي جهة رسمية جمعه من الموروث الشعبي الشَّفَاهِي، عبر رحلة شملت مختلف محافظات الجمهورية، حتى الجزر لم تستثنها.
وكانت حصيلة هذا العمل ثروة من الموروث الشعبي، التي استطاعت أن تحفظه مادة متاحة للأجيال، عبر التسجيل، والتصوير الفوتوغرافي والتلفزيوني، ليشكل في مجمله، جزءاً من المنتج السياحي لهذا البلد.
بيتٌ برائحة اليمن
إنه بحق بيت تفوح منه رائحة اليمن، وتنعكس على زواياه الضيقة ملامح اليمن بامتداداته الجغرافية وتنوعاته السكانية، يقدم الفضاء الضيق المتاح في إطار هذا البيت رسالة عميقة بشأن النظرة إلى الماضي باعتباره المخزن الذي يحتفظ بجزءٍ مهمٍ من ذاكرتنا، هذه الذاكرة التي تنعكس بوعي وبدون وعي على مجمل الممارسات التي نقدم عليها في حاضرنا.
سنقوم بجولة في هذا البيت، سنتمعن في قراءة محتويات القسم المتحفي من البيت، ولكن علينا أن نقدم للقارئ على عجالة بقية أقسام البيت وهي:
1 – الإدارة الفنية: ومهمة هذه الإدارة تفعيل النشاط الثقافي البحثي للبيت، وإجراء التواصل مع المراكز الثقافية داخل اليمن وخارجه.
2 – المكتبة الفلكلورية: وهي بحسب مؤسسة المركز نواة لمكتبة تأمل أن تكون في المستقبل أكبر مما عليه اليوم، وتحتوي على كتب ودوريات ذات مضامين على علاقة باهتمام بيت الموروث الشعبي، وفيها أيضاً أرشيف صوتي وفوتوغرافي وأرشيف تلفزيوني.
3 – وحدة الجمع والتدوين والتوثيق: ومن خلال هذه الوحدة يتم جمع وتدوين الموروث الشفاهي من أفواه المسنين بالإضافة إلى طرق توثيقه.
متحف الذاكرة الشعبية
عندما تلج إلى بيت الموروث تواجهك مساحةٌ، ازدحمت على جدرانها صور متعددة الأحجام ومجهزة بشكل جيد، تنعكس عليها ملامح الشخصية اليمنية الأصيلة، وجوه رجال ونساء وشيوخ وأطفال، تشغل هذه اللوحات بإتقان بديع.
وفي ذلك البهو الضيق تواجهك نماذج من الملابس التقليدية التي تعكس ملامح البيئة شديدة التنوع في الأذواق والمستويات الاجتماعية، تعكس على نحو أشمل حالة التنوع في البيئة اليمنية، حيث الجبال والوديان والصحارى والسواحل،حيث لكل إقليم جغرافي طبيعي مناخه الذي يتوزع بين البرودة الشديدة، والمعتدلة وشديدة الحرارة.
وهناك صندوق يختزن أنواعاً من الحلي التي تعكس المستوى الاجتماعي للمرأة، وتعكس الذائقة الجمالية لكل بيئة اجتماعية في اليمن.
وما يحتشد من نماذج في المدخل الضيق للمتحف يتكرر كلما صعدت باتجاه الأعلى، تلاحظها في سلالم البيت وفي الغرف،هذا بالطبع إلى جانب عروض أكثر تخصصاً؛ تتعلق بطقوس الأعراس في البيئات اليمنية المختلفة، والمطبخ اليمني التقليدي، فضلاً عن عشرات الصور الرائعة ذات البراويز والإطارات الجذابة والتي تحتوي عشرات المشاهد من الممارسات الاجتماعية التقليدية والوجوه الإنسانية من كل البيئات.
تقدم الصور أنماطاً من الممارسات التقليدية، وخصوصاً في مجال الطب الشعبي، حيث تتصاعد مستويات التعامل مع أمراض المجتمع على نحو تراجيدي باستخدام وسائل تختلط فيها المغامرة مع الأسطورة والشعوذة، وحيث لا سقف أيديولوجي يحكم بيت الموروث الشعبي كما أرادت مؤسسته.
فهي تحتفي بكل تقليد عاشه المجتمع، فالمجاذيب، وهم دراويش الطرق الصوفية، موجودون في هذا البيت من خلال هذه الصور.
إذ على هذه الصور تنعكس حركات المجاذيب البهلوانية، وممارساتهم المسوخية،بكل ما تعنيه من تعذيب للذات بالأدوات الحادة، الذي تلخصه المقولة الشعبية “لا ظهر أحمد ابن علوان” ، الصوفي الشهير المثير للجدل الذي عاش في تعز، ومات ودفن في عاصمة مديرية جبل حبشي في عهد الدولة الرسولية.
وما سبق يشكل جزءاً من المتحف الصغير،الذي يتيح لزائره، من جيل الشباب ممن لم يعيشوا جو المنزل اليمني التقليدي في الريف وحتى في المدينة، الذي تبدلت ملامحه كلياً نتيجة طغيان نمط استهلاكي مغاير تماماً لما عاش عليه اليمنيون عبر الأجيال.
ويقدم صورةً مكثفةً للحياة اليمنية لعشرات الزوار من الأجانب الذين وجدوا في بيت الموروث الشعبي نافذة رائعة للتعرف على هذا البلد بأعرافه وتقاليده وأنماط حياته وأسلوب معيشته.
في هذا المتحف الصغير، يوجد المطبخ الشعبي، الذي يقدم أنموذجاً مشابهاً للمطبخ السائد في البيت اليمني، حيث التنور، وما يعرف محلياً ب”الصُّعْد”، وهو عبارة عن مَوْقّد يشغل جزءاً محدداً من المطبخ التقليدي، ويتألف من حجرين متشابهين بالحجم توضع عليهما القدور، أو الصاجات المصنوعة من الحديد، وكذلك “الملحة”؛ وهي عبارة عن أداة تأخذ شكلاً دائرياً مسطحاً، وتُصنع بأحجام مختلفة من الطين المحروق بأفران تقليدية منتشرة في عدد من المناطق الريفية، ويطلق على هذا النوع وغيره من الأدوات الفخارية الأخرى، التي كانت تُهيمن على المنزل التقليدي في اليمن، اسم المدَر، بفتح الدَّال، ويطلق على الذي يقوم بصناعتها لقب المدَّار، بتشديد الدال.
وعلى المَلْحة تقوم النساء بإنضاج أنواعٍ من الخبز اليمني اللين أشهره خبز اللَّحُوح، وهو المادة الغذائية الرئيسة في المائدة الرمضانية للأسرة اليمنية حتى يومنا هذا.
وتحت هذه القدور أو الصاجات؛ يتم إضرام النار في قطع من الحطب بهدف إنضاج أنوع الخبز ومختلف أنواع الأغذية الأخرى.
وفيما يعكس المطبخ كل هذه الأوصاف والممارسات، يحتشد أيضاً في زواياه، وفي الفتحات الغائرة الموزعة على جدرانه بأشكالٍ مستطيلةٍ ومربعةٍ ودائريةٍ؛ وفي الرفوف، مختلف الأواني والأدوات التي تدخل في إعداد الطعام أو خزنه أو تقديمه,
وعدد من هذه الأواني مملوء بالحبوب التي تزرع في اليمن ومنها يتم إعداد مادة الخبز الأساسية،مما يضع الزائر في مشهد يقارب في تفاصيله ومحتوياته ومتعلقاته، حقيقة المطبخ اليمني ومعه العادات والتقاليد المرتبطة بطقوس إعداد الطعام وأدواته على مستوى اليمن.
قيمة سياحية مضافة
إن الحماس المنقطع النظير للموروث الشعبي، هو الدافع الأقوى الذي أثمر هذا البيت، ولئن كان قد استقر وفي وعي مؤسسته أروى عبده عثمان، أن العناية بالموروث الشعبي تعني العناية بفرع ثقافي هو الأغنى رغم التركيز الذي يصل حد الملل بالمضمون السائد للثقافة، بما هو قصيدة شعر موزونة ومقفَّاة، مازالت المعركة محتدمة حول مشروعيتها، حينما تتمرد عن الوزن والقافية لتلتزم معايير أكثر ثورية متجسدة في قصيدة التفعيلة أو القصيدة النثرية، وبما هو قصة ورواية تلتزم تقنيات مستوردة من ثقافة أخرى.
أقول لئن كان قد استقر في وعي مؤسسة بيت الموروث الشعبي البعد الثقافي لدور ورسالة هذا البيت، فإن هذا البيت يقدم رسالة أخرى مهمة، عن قصد وعن غير قصد، إنها رسالة سياحية بامتياز.
هذه الرسالة التي يقدمها بيت الموروث من القوة بمكان، إلى حد بات معه هذا البيت قيمة مضافة للمنتج السياحي لليمن، حيث أصبح أحد المقاصد التي تجتذب العشرات من السياح ممن يدفعهم الفضول لاكتشاف التفاصيل المدهشة الكامنة في ثنايا المكون الثقافي للمنتج السياحي في اليمن، متمثلاً في عادات وتقاليد وموروث هذا المجتمع.
ذلك أن السياحة في اليمن، مازالت تعتمد على المكون الثقافي: المدن التاريخية، والآثار، والأنماط المعمارية المتنوعة في اجتذاب آلاف السياح القادمين خصوصاً من الأسواق التقليدية في أوروبا.
هذا المكون الثقافي تتعدد عناصره لتشمل المزارات الدينية، ولهذه المزارات روادها من السياح القادمين من الغرب والشرق، غير أن سبر أغوار المجتمع والدوافع الملحة لاكتشاف أنماط الحياة في اليمن والعادات والتقاليد، هي في الواقع جزء مهم وأكثر جاذبية في المكون الثقافي للسياحة في اليمن.. بيت الموروث الشعبي، واستلهاماً لرسالته الثقافية والسياحية، كان هذا البيت محل عناية خاصة من عدد من الأجانب الذين قاموا بمبادرات شخصية بدعم رسالته، وبتقديم الاستشارات القيمة والمفيدة، لصاحبة البيت، وتمويل جزء من التجهيزات حتى أصبح على هذا النحو من الترتيب والإحاطة الشاملة بكل مكونات الموروث الشعبي لليمن.
لقد بات من المهم جداً إدراج بيت الموروث الشعبي ضمن البرنامج السياحي، ليتسنى للسياح الذي يقصدون صنعاء زيارة هذا المتحف، ففيه من العناصر الكثير التي بوسعها أن تحفز السائح لمعرفة ما غفل عنه من تفاصيل عن هذا البلد وإطالة أمد بقائه ليتمكن من تحقيق هذه الغاية.